المركز العربي للمناخ – المهندس احمد العربيد
الآن وقد دخلنا إلى موسم الصيف وموجات الحر الشديدة، يعاني الناس بشكل متكرر من موجات الحرارة المرتفعة، التي قد تتسبب في حدوث وفيات في بعض البلدان. هذه الموجات الحارة ربما تكون أكثر ملاحظة في المدن؛ حيث الازدحام والبنايات المرتفعة، والجو الخانق الذي يزيد من هذا الإحساس بالحرارة.
والسؤال: هل هناك وسيلة تساعدنا على التقليل من هذا الشعور بالحرارة؟ هل من وسائل بسيطة يمكن أن تساعد الناس في المدن وتخفض من موجات الحر المميتة؟ الحل ربما يكون بسيطًا بالفعل وموجودًا تحت أقدامنا دون أن نعرف، إنه أرصفة الشوارع التي نسير عليها!
الأرصفة والشوارع تزيد من حرارة الجو!
ربما لاحظ بعضنا تلك السخونة الشديدة التي نشعر بها في أحذيتنا خلال فصل الصيف عند السير على الشوارع أو الأرصفة، خصوصًا لو كانت تلك الأرصفة داكنة اللون مثل أسفلت الشوارع. هذه الشوارع والأرصفة الساخنة لا تتسبب في إحساسك بالحرارة عند ملامستها فحسب، بل إنها تتسبب أيضًا في رفع درجة حرارة الهواء المحيط بها.
نحن نعلم أن الألوان الداكنة تمتص أشعة الضوء بصورة أكبر من الألوان الفاتحة، وبالتالي عندما تصطدم أشعة الشمس بالشوارع والأرصفة التي يميل لونها للدرجات الداكنة، فإنها تمتص كمية أكبر من أشعة الشمس. هذا يعني أن هناك المزيد من الطاقة الحرارية التي تدخل إلى هذه الأسطح، والتي تعمل على رفع حرارة الهواء الملامس لها. وبالتالي ينعكس هذا على الأشخاص الذين يسيرون في الشوارع؛ إذ يشعرون بأن الجو أكثر حرارة.
في المناطق الحضرية والمدن، حوالي 40% من الأراضي معبدة؛ أي مرصوفة الشوارع، وتحتوي على أرصفة يسير عليها المشاة، وهذا يعني أن هذه الأسطح تمتص الكثير من الطاقة الحرارية من الشمس ثم تطلق هذه الحرارة الممتصة تدريجيًّا؛ مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة البيئة المحيطة.
ما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم آثار موجات الحرارة. وهذا هو أحد الأسباب الأساسية التي تجعل المدن أكثر دفئًا بدرجات قليلة في الصيف من المناطق الريفية القريبة، والضواحي المليئة بالأشجار في أطراف المدن.
إذن ما الحل؟
ربما لن يكون بإمكاننا جعل الشوارع ذات لون فاتح أكثر لأننا محكومون بمادة الأسفلت داكنة اللون في تعبيد الطرق. لكن على الأقل يمكننا تغيير لون الأرصفة التي نسير عليها. إذ يمكن لاستخدام اللون الأبيض على الرصيف، أن يمنع تراكم الحرارة ويساعد في مواجهة تغير المناخ من خلال عكس أشعة الشمس إلى الطبقات العليا للغلاف الجوي. الأمر نفسه يمكن تطبيقه من خلال استخدام مواد عاكسة معينة تقوم بهذا الفعل بشكل أكثر كفاءة.
ومن أجل تقدير درجة انعكاس أشعة الشمس على الرصيف، يستخدم العلماء مقياسًا يسمى «ألبيدو – albedo» يشير إلى نسبة الضوء التي يعكسها سطح ما. فكلما انخفضت الدرجة على هذا المقياس زاد امتصاصه للضوء، وبالتالي زادت الحرارة التي يحبسها.
أرصفة الشوارع التقليدية، مثلها مثل أسفلت الشوارع، لها درجة منخفضة على مقياس «ألبيدو» تصل لحوالي 0.05-0.1، مما يعني أنها تعكس فقط 5% إلى 10% من الضوء الذي تستقبله، بينما تمتص قرابة 90-95% من ضوء الشمس.
لكن عندما نستخدم إضافات تجعل الأرصفة أكثر إشراقًا، أو نستخدم طلاءات أسطح عاكسة للضوء أو موادًا أكثر إشراقًا من الخرسانة، فإنها يمكن أن تضاعف درجة مقياس «ألبيدو» ثلاث مرات، مما يعني إرسال المزيد من أشعة الشمس إلى الغلاف الخارجي وإبعادها عن طبقة الهواء الملامسة لسطح الأرض.
الأرصفة العاكسة تخفض الاحتباس الحراري وتوفر المال أيضًا!
في أحدث الأبحاث التي ركزت على هذا الأمر، والذي قام به باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة هذا العام، أظهر أنه على الرغم من أن فوائد الأرصفة العاكسة يمكن أن تختلف عبر ملايين الكيلومترات من الطرق الموجودة في كافة أنحاء أمريكا، فإن هذه الفوائد كانت هائلة في المجمل.
فإذا تمكن الأمريكيون من جعل جميع أرصفتهم أكثر بياضًا أو انعكاسًا، فهذا من شأنه تقليل استخدام الطاقة اللازمة لأجهزة التبريد وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بما يوازي ما تبثه 4 ملايين سيارة لمدة عام واحد. وإذا ما أمكن الحصول على المواد اللازمة لجعل الأرصفة أكثر بياضًا من مصادر محلية، مثل الإسمنت أو الحجارة ذات الألوان الفاتحة، فيمكن لهذه الطرق أيضًا توفير المال للحكومات.
الأمر ليس اعتباطيًّا.. موقع الأرصفة مهم
لكن عملية جعل الأرصفة أكثر بياضًا يجب أن تحدث بشكل إستراتيجي، بمعنى أنه ليست كل الأرصفة مثالية لعملية تقليل هذه الحرارة وجعل الطرق أكثر برودة. إذ إن الموضع الخاطئ يمكن أن يؤدي في الواقع إلى تسخين المباني المجاورة بدلًا من تبريد السطح.
ذكرنا في فقرة سابقة أن فوائد استخدام هذه الطريقة تختلف داخل المدن والأحياء الحضرية. هذا يأتي من أنه عندما تعكس الأرصفة الأكثر إشراقًا أشعة الشمس، فإنه يمكن أن تنعكس الأشعة على المباني الملاصقة للأرصفة، والذي يمكنه تدفئة هذه المباني في الصيف، مما يؤدي في الواقع إلى زيادة الطلب على مكيفات الهواء. وبالتالي، اختيار موقع الأرصفة التي نجعلها أكثر إشراقًا هو أمر بالغ الأهمية.
لنضرب هنا أمثلة قريبة. إذ أخذنا مدينة نيويورك مثالًا. تتميز منطقة مانهاتن بناطحات السحاب والمباني الشاهقة بالإضافة إلى الشوارع غير الواسعة نسبيًّا، والتي تمنع الضوء من الوصول مباشرة إلى الرصيف معظم ساعات اليوم. وبالتالي، لن يساعد الرصيف العاكس أو يضر كثيرًا هنا.
لكن إذا انتقلنا إلى الطرق السريعة الخالية من العوائق في مدينة لوس أنجلوس وضواحيها، سنشهد فائدة واضحة من عكس جزء كبير من ضوء الشمس إلى الجزء العلوي من الغلاف الجوي. في مثل هذه المدن، فإن مضاعفة درجة البياض أو الإشراق للأرصفة على مقياس «ألبيدو»، يمكن أن يخفض درجات الحرارة في ذروة فصل الصيف بمقدار 0.3 إلى 1.7 درجة مئوية.
في مدن أخرى تتميز أحياؤها الداخلية بوجود المباني المتناثرة والمنخفضة الارتفاع يمكن أن تنخفض درجات حرارة الصيف أكثر من ذلك، لتصل من 1.4 إلى 2.1 درجة مئوية. التأثيرات في بعض أجزاء وسط هذه المدن تكون معقدة؛ إذ إن الرصيف العاكس في بعض أجزائها يمكن أن يزيد الطلب على مكيفات الهواء بسبب زيادة الإشعاع الحادث على المباني.
الأمر نفسه يمكن أن نلاحظه في أحياء القاهرة على سبيل المثال. إذ أن تلك المباني متوسطة الطول والمتلاصقة وذات الشوارع الضيقة في قلب مدينة القاهرة يجعل استخدام المواد العاكسة على الأرصفة ليس ذا جدوى. بينما مناطق مثل مدينة السادس من أكتوبر يمكن أن نلاحظ فيها تأثير أقوى للأرصفة البيضاء كون المباني أكثر بعدًا بعضها عن بعض.
لكن على كل حال، تبقى الأرصفة العاكسة حلًّا ملائمًا، يمكنه تحويل الشوارع التي نستخدمها كل يوم، وسيلة لتقليل الاحترار في المدن.