المركز العربي للمناخ – المهندس احمد العربيد
شهد الشتاء الماضي دفئًا غير معتاد، حيث غابت موجات الصقيع والانجماد التي كانت تضرب منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وخاصة تلك التي كانت تسلك المسار القاري. لم تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر في بلاد الشام والمناطق المجاورة بشكل متكرر كالمعتاد، وهو ما جعل الشتاء يفتقد طابعه التقليدي البارد. لكن مع اقتراب فصل الشتاء الجديد، بدأت بعض العوامل التي تتحكم في مناخ المنطقة بالظهور، وتشير إلى احتمالية عودة البرد الشديد هذا الموسم، مما يبعث الأمل في عودة “نكهة” الشتاء الحقيقي إلى المنطقة.

المؤشرات الدالة على دفء الموسم الشتوي الماضي ظهرت مبكرا العام السابق، حتى قبل بداية الشتاء. ارتفاع حرارة الأرض بشكل سريع ومفاجئ كان نتيجة تبعات ثوران بركان “هونغا تونغا” الذي وقع تحت مياه المحيط الهادئ. هذا البركان حقن الغلاف الجوي بكميات هائلة من بخار الماء، مما أدى إلى تدفئة الأرض بشكل ملحوظ وسريع.

ومع مرور الوقت، بدأت آثار هذا الثوران تتلاشى تدريجيًا. هذا التراجع في التأثيرات أدى إلى انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة في مناطق مهمة من الأرض، مثل القطبين ومنطقة 3.4 من المحيط الهادئ، وهي المنطقة التي تشهد حاليًا تطور ظاهرة “اللانينا”، والتي من المتوقع أن تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل نمط الشتاء المقبل.

نلاحظ في الصورة التالية تراجع نسب تركيز بخار الماء في الغلاف الجوي مؤخراً :

قبل أيام، أشرنا في تقرير علمي مفصل إلى التعاظم السريع للمرتفع السيبيري البارد جداً، وقدمنا شرحاً دقيقاً حول كيفية تأثيره المتوقع على طقس المنطقة. لقراءة التقرير كاملاً، [اضغط هنا لمشاهدة التقرير]. ومن خلال هذا التقرير، استطعنا استخلاص مؤشر هام جداً يتعلق بموجات البرد المحتملة التي قد تؤثر على منطقتنا خلال فصل الشتاء .

قبل أيام قليلة، بدأت النماذج المتخصصة في قياس السلوك الشتوي في القطب الشمالي تشير إلى ظواهر غريبة ونادرة بالنسبة لهذا الوقت من العام تحدث فوق القبة القطبية الشمالية. ورغم أن بعض مواقع الطقس العالمية توقعت تشكل دوامة قطبية ضعيفة، فإن الواقع جاء معاكسًا تمامًا لهذه التوقعات. هذا التباين يمكن ملاحظته عند قياس “معامل تذبذب القطب الشمالي” (AO)، الذي يشير إلى انتقال الدوامة القطبية الشمالية إلى المرحلة الإيجابية. هذه المرحلة تعني انخفاض الضغط الجوي في مركز الدوامة القطبية، مما يسمح للرياح الباردة بالدوران حولها بشكل شبه منتظم، مع تراكم كتل هوائية شديدة البرودة فوق القطب الشمالي، ما يؤدي إلى تشكل “دوامة قطبية قوية.”

ما يثير الدهشة في هذا السياق هو تسجيل قيم إيجابية لتذبذب القطب الشمالي تخطت الخمس درجات كاملة، وهو مستوى يعد مرتفعًا بشكل غير عادي في هذا الوقت من العام. عادةً ما تُسجل هذه القيم المتطرفة في عمق فصل الشتاء، وليس خلال شهر أكتوبر.


في هذه الحالة، يعتبر هذا مؤشرًا مبكرًا على قوة الدوامة القطبية الشمالية، وهو ما يمكن قياسه أيضًا على مستوى طبقة الستراتوسفير. في هذه الطبقة العليا من الغلاف الجوي، يمكن ملاحظة انتظام في شكل الدوامة القطبية الستراتوسفيرية الشمالية، بالتزامن مع تسارع واضح في رياح الدوران حول الدوامة. هذه التطورات تدل على استقرار وتماسك الدوامة القطبية في طبقة الستراتوسفير، ما يعزز من قدرتها التبريدية خلال فصل الشتاء :

وبناءً على ما سبق، واستناداً إلى مراجعات إحصائية وعمليات مقارنة دقيقة قمنا بها في المركز العربي للمناخ، فإن المؤشرات أصبحت مرتفعة بشأن احتمالية أن يكون فصل الشتاء المقبل أبرد بشكل ملحوظ مقارنة بالشتاء الماضي. تشير التوقعات إلى أن العوامل المناخية الحالية قد تؤدي إلى زيادة ملحوظة في وتيرة وصول الكتل الهوائية القطبية إلى المنطقة، لتكون حول إلى أعلى من المعدلات العامة.

هذا يعزز من فرص حدوث منخفضات جوية قوية، بالإضافة إلى حالات عدم استقرار جوي قد تؤثر على مختلف الدول العربية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك، قد نشهد تأثيرات مضاعفة على الزراعة والمخزون المائي، حيث إن التغيرات في درجات الحرارة والأمطار قد تؤدي إلى تحسين ظروف نمو بعض المحاصيل، بينما يمكن أن تضر بمحاصيل أخرى.

كما يُحتمل أن تؤدي هذه الظروف الجوية المتقلبة إلى زيادة فرص حدوث العواصف الثلجية والمنخفضات الجوية العميقة في بعض المناطق، مما يستدعي اتخاذ تدابير وقائية على مستوى البنية التحتية والمرافق العامة. لذلك، من المهم أن تتابع الجهات المختصة التطورات المناخية عن كثب، وتكون مستعدة لاستجابة سريعة لحالات الطقس القاسية، لضمان سلامة المواطنين وحماية الموارد الطبيعية ، خصوصاً ان مياه البحار والمحيطات التي تتحكم في طقس منطقتنا مازالت تعاني من احترار ملحوظ مما يعني احتمالية ان تحدث فروقات حرارية مرتفعة جداً ما بين الكتل الهوائية الباردة ومياه البحر الدافئة والتي قد تعمل على مضاعفة قوة الحالات الجوية.
ومع ذلك، يجب التنبيه إلى أن هذه التوقعات بعيدة المدى، ومن الضروري متابعة التحديثات أولاً بأول، حيث إن النماذج المناخية قد تتغير مع مرور الوقت، مما يتطلب مراقبة مستمرة لضمان اتخاذ الإجراءات المناسبة في الوقت المناسب.
والله اعلى واعلم

شارك: