المركز العربي للمناخ – المهندس احمد العربيد
المرتفع الجوي السيبيري، الذي يُلقب أحيانًا بـ”الوحش البارد القادم من الشرق” من قبل بعض خبراء الطقس والمناخ حول العالم، هو نظام ضغط جوي مرتفع يتشكل ويتعاظم بسرعة خلال فصلي الخريف والشتاء. يمتد تأثيره ليشمل العديد من المناطق في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، ولا سيما في آسيا، شرق أوروبا، الشرق الأوسط، ويمتد تأثيره ايضاً الى اجزاء من شمال إفريقيا.
عند سماعنا لمصطلح “مرتفع جوي”، قد يظن البعض في البداية أن الأمر يرتبط بارتفاع درجات الحرارة واستقرار الأجواء، إلا أن الحقيقة تختلف عن هذا التصور الشائع. فعلى العكس من المتوقع، يتسبب المرتفع السيبيري في موجات برد شديدة وقاسية وقد يتفاعل مع الكتل المدارية الرطبة ليحدث احد اوسع واشد حالات عدم الاستقرار الجوي، وأحيانًا تكون برودته ضارة للبشر والنباتات على حد سواء نظراً للبرودة القارسة التي يتسبب بها والتي تتجاوز الوصف احياناً بحيث تكون درجات الحرارة الناجمة عن تأثيره ما دون الصفر المئوي وبعشرات الدرجات احياناً.
يتعاظم المرتفع الجوي السيبيري فوق اليابسة في شمال شرق آسيا نتيجة التبريد الشديد الناتج عن الثلوج والجليد الذي يغطي مساحات واسعة من سيبيريا. هذا التبريد يؤدي إلى زيادة كثافة الهواء وارتفاع الضغط الجوي، ما يسهم في تكوين كتل ضخمة من البرودة الشديدة والمركزة.
عندما يبدأ المرتفع الجوي السيبيري في التحرك، فإنه يتسبب في انخفاض درجات الحرارة بشكل كبير في المناطق التي يتجه نحوها، حيث ينشر البرودة القارسة أينما ذهب. ففي 25 فبراير 2018، اندفعت رياح المرتفع السيبيري باتجاه الغرب ووصلت إلى القارة الأوروبية، مما أدى إلى تجمد واسع النطاق وانخفاض غير مسبوق في درجات الحرارة هناك. هذا الحدث استحق تسميته حينها بـ “الوحش القادم من الشرق” أو “Beast from the East”.
المرتفع السيبيري يتسبب في موجات برد قاسية تؤثر على دول الشرق الأوسط سنويًا، ويُعد المسؤول عن معظم موجات البرد الشديد التي تتسبب عادةً بانخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي. من أبرز تأثيراته كانت في عام 2008، حينما اندفعت كتلة هوائية شديدة البرودة من سيبيريا، مؤثرة على الأردن، فلسطين، سوريا، لبنان، العراق، شمال مصر، وشمال السعودية. أدت هذه الكتلة إلى انخفاض درجات الحرارة العظمى إلى ما دون الصفر في العديد من المناطق، وتسببت في تلف واسع للمحاصيل الزراعية في منطقة غور الأردن، الذي يعد أخفض بقعة في العالم.
العاصفة الثلجية في فبراير 2012: تأثرت المنطقة بموجة برد حادة ناجمة عن تدفق الرياح السيبيرية الباردة، مما أدى إلى تساقط الثلوج بكثافة في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين. تعطلت الحياة اليومية بسبب تراكم الثلوج وانخفاض درجات الحرارة الحاد.
عاصفة “هدى” في يناير 2015: تعتبر واحدة من أقوى العواصف التي ضربت بلاد الشام في ذلك العقد. تأثرت المنطقة بموجة برد ناتجة عن اندفاع الكتل الهوائية الباردة القادمة من السيبيري، مما أدى إلى تساقط كثيف للثلوج، خاصة في الأردن وفلسطين، حيث تشكلت طبقات سميكة من الجليد وحدثت تجمدات واسعة.
موجة برد في يناير 2022: شهدت المنطقة موجة برد شديدة مصحوبة برياح باردة للغاية، مما أدى إلى تسجيل درجات حرارة متدنية في معظم مناطق بلاد الشام. تم ربط هذه الموجة بالمرتفع السيبيري، الذي ساهم في جلب الهواء القطبي نحو المنطقة، مما أدى إلى صقيع وتأثر الزراعة والقطاعات الحيوية.
هناك علاقة بين سلوك وتطور المرتفع السيبيري وظاهرة “اللانينا”: خلال سنوات اللانينا، تحدث تغييرات كبيرة في أنماط الطقس العالمي، مما يؤثر على سلوك المرتفع السيبيري.
ظاهرة اللانينا تؤدي إلى تبريد كبير في المحيط الهادئ الاستوائي، مما يؤثر على حركة التيارات الجوية العالمية. عندما تكون اللانينا نشطة، يتعزز المرتفع السيبيري بشكل أكبر نتيجة لزيادة التبريد في سيبيريا والمناطق المجاورة. هذا التبريد يؤدي إلى تراكم الكتل الهوائية الباردة وزيادة قوة المرتفع، مما يجعله أكثر تأثيرًا على مناطق مثل الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا.
بالتالي، في سنوات اللانينا، يكون المرتفع السيبيري أكثر قوة واستقرارًا، مما يزيد من احتمال حدوث موجات برد قوية في مناطق واسعة، بما في ذلك الشرق الأوسط، علما بان التوقعات تشير الى استمرار تاثير ظاهرة اللانينا ” الخفيفة الى المتوسطة “خلال الفترة المقبلة وحتى نهاية فصل الشتاء.
وبالعودة إلى التوقعات: نلاحظ تعاظمًا سريعًا وزيادة كبيرة في نمو الكتل الهوائية الباردة المرتبطة بالمرتفع السيبيري، وذلك بالتزامن مع توسع ملحوظ في مساحة الثلوج المتراكمة والجليد فوق سيبيريا. وعند مقارنة هذه الظاهرة مع السنوات السابقة، يظهر أن هذا النمو السريع قد يؤدي إلى موجات برد أشد من المعتاد في المناطق التي تقع ضمن نطاق تأثير المرتفع، ومنها الشرق الأوسط. هذا التصاعد في قوة المرتفع والسيطرة المتزايدة للهواء البارد تنذر بفترات باردة جداً مقبلة على المنطقة، قد تحمل معها انخفاضات قياسية في درجات الحرارة وموجات صقيع ممتدة.
استنادًا إلى أحدث المعطيات، من المتوقع أن نستقبل البرودة الشرقية بشكل مبكر خلال شهر نوفمبر المقبل، ليزداد تأثيرها مع بداية فصل الشتاء فلكيًا. ومن المرجح أن تؤدي هذه الرياح الباردة، بالإضافة إلى انخفاض درجات الحرارة، إلى نشوء حالات عدم استقرار جوي عند التقاء هذه الرياح مع الرياح المدارية فوق المنطقة. هذا التفاعل بين الكتل الهوائية قد يساهم في تكوين تقلبات جوية، مما يعزز فرص تساقط الأمطار، وربما قد يؤدي إلى حدوث عواصف رعدية في بعض المناطق، علاوة على زيادة فرص تساقط الثلوج خلال فصل الشتاء في المنطقة.
والله اعلى واعلم