المركز العربي للمناخ – المهندس احمد العربيد

اكتشف فريق يقوده باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة جزيئات كبيرة تحتوي على الكربون داخل سحابة بين نجمية من الغاز والغبار.

يمثل هذا الاكتشاف أملاً لعشاق متابعة قوائم الجزيئات المعروفة في الفضاء بين النجوم، إذ قد يسهم في فهم كيفية نشأة الحياة في الكون.

لكن أهمية هذا الاكتشاف تتجاوز مجرد إضافة جزيء آخر إلى قائمة الجزيئات. إذ تشير النتائج، المنشورة اليوم في مجلة “ساينس”، إلى أن الجزيئات العضوية المعقدة (التي تحتوي على الكربون والهيدروجين) كانت موجودة على الأرجح في السحابة الباردة والمظلمة من الغاز، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى تكوّن نظامنا الشمسي.

علاوة على ذلك، فإن هذه الجزيئات بقيت متماسكة حتى بعد تشكل الأرض. وهذا جانب مهم في فهمنا لأصول الحياة المبكرة على كوكبنا.

جزيئات صعبة التدمير وذات كشف عسير
الجزيء المعني هنا هو “البيرين”، وهو نوع من الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، ويعرف اختصاراً باسم “PAH”. يشير هذا الاسم المعقد إلى أن هذه الجزيئات تتكون من حلقات من ذرات الكربون.

تشكل الكيمياء الكربونية العمود الفقري للحياة على الأرض، وقد عُرف منذ فترة طويلة أن جزيئات “PAH” وفيرة في الوسط بين النجمي، لذا فهي تحتل موقعًا مهمًا في النظريات التي تتناول كيفية نشأة الحياة على الأرض المعتمدة على الكربون.

نعلم بوجود العديد من جزيئات “PAH” الكبيرة في الفضاء، إذ تمكن علماء الفلك من اكتشاف علامات عليها من خلال الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء. إلا أننا لم نكن نعرف بالتحديد أسماء الجزيئات التي قد تكون موجودة بينها.

البيرين هو الآن أكبر جزيء “PAH” تم اكتشافه في الفضاء، على الرغم من كونه “صغيرًا” نسبيًا ضمن هذه الفئة، حيث يتكون من 26 ذرة. كان يُعتقد لفترة طويلة أن مثل هذه الجزيئات لا يمكنها البقاء في البيئة القاسية لتشكل النجوم، حيث يتعرض كل شيء للإشعاع الصادر من النجوم الوليدة، مما يؤدي إلى تدمير الجزيئات المعقدة.

في الواقع، كان الاعتقاد السائد سابقاً أنه لا يمكن للجزيئات التي تتجاوز حجمها ذرتين أن تتواجد في الفضاء لهذا السبب، حتى تم العثور عليها فعلياً. كما أظهرت النماذج الكيميائية أن البيرين يصعب تدميره بعد أن يتشكل.

في العام الماضي، أفاد العلماء بأنهم وجدوا كميات كبيرة من البيرين في عينات مأخوذة من الكويكب ريوغو في نظامنا الشمسي. وقد أشاروا إلى أن جزءًا على الأقل من هذه الكميات قد جاء من السحابة الباردة بين النجوم التي سبقت نظامنا الشمسي.

لكن لماذا لا يتم البحث عن جزيئات أخرى في سحابة باردة أخرى؟ المشكلة التي يواجهها علماء الفلك هي عدم توفر الأدوات اللازمة لاكتشاف البيرين مباشرةً، فهو غير مرئي للتلسكوبات الراديوية.

استخدام متعقب
الجزيء الذي اكتشفه الفريق هو “1-سيانوبيرين”، وهو ما يسمى بـ”متعقب” للبيرين. يتشكل هذا الجزيء من تفاعل البيرين مع السيانيد، الذي يعد شائعاً في الفضاء بين النجوم.

استخدم الباحثون تلسكوب “جرين بانك” في ولاية ويست فيرجينيا لرصد سحابة الثور الجزيئية TMC-1 في كوكبة الثور. وعلى عكس البيرين، يمكن اكتشاف “1-سيانوبيرين” بواسطة التلسكوبات الراديوية، حيث تعمل جزيئات “1-سيانوبيرين” كمصدر صغير للموجات الراديوية – أشبه بمحطات راديو صغيرة.

وبمعرفة العلماء لنسب “1-سيانوبيرين” مقارنةً بالبيرين، تمكنوا من تقدير كمية البيرين في السحابة بين النجوم.

كانت كمية البيرين التي وجدوها كبيرة. والأهم من ذلك، أن هذا الاكتشاف في سحابة الثور الجزيئية يشير إلى وجود كمية كبيرة من البيرين في السحب الجزيئية الباردة والمظلمة التي تؤدي في النهاية إلى تشكل النجوم والنظم الشمسية.

التعقيد في ولادة الحياة
نحن نعمل تدريجياً على بناء صورة عن كيفية تطور الحياة على الأرض. تشير هذه الصورة إلى أن الحياة جاءت من الفضاء – على الأقل الجزيئات العضوية المعقدة التي سبقت تشكل الحياة.

إن بقاء البيرين في ظل الظروف القاسية المرتبطة بتشكل النجوم، كما أظهرت نتائج من الكويكب ريوغو، يمثل جزءاً مهماً من هذه القصة.

ظهرت أشكال الحياة البسيطة – المكونة من خلية واحدة – في السجل الأحفوري للأرض تقريباً فور تبريد سطح الكوكب بما يكفي لعدم تبخر الجزيئات المعقدة. حدث هذا منذ أكثر من 3.7 مليار سنة في تاريخ الأرض الذي يمتد إلى حوالي 4.5 مليار سنة.

من أجل أن تظهر الكائنات الحية البسيطة بهذه السرعة في السجل الأحفوري، لا يكفي أن تبدأ الكيمياء بجزيئات بسيطة مكونة من ذرتين أو ثلاث ذرات.

يظهر الاكتشاف الجديد لـ”1-سيانوبيرين” في سحابة الثور الجزيئية أن الجزيئات المعقدة يمكنها فعلاً النجاة من الظروف القاسية لتشكل النظام الشمسي. وبالتالي، كان البيرين متاحًا لتشكيل أساس الحياة المعتمدة على الكربون عندما ظهرت على الأرض منذ حوالي 3.7 مليار سنة.

يرتبط هذا الاكتشاف أيضًا باكتشاف آخر مهم في العقد الماضي – أول جزيء كيرالي في الوسط بين النجمي، وهو “أوكسيد البروبيلين”. نحن بحاجة إلى الجزيئات الكيرالية لتحقيق تطور الكائنات الحية البسيطة على سطح الأرض المبكرة.

حتى الآن، تبدو نظرياتنا عن أن الجزيئات التي أدت إلى نشأة الحياة المبكرة على الأرض قد جاءت من الفضاء واعدة ومبشرة.

شارك: